من مكة الى لاس فيجاس
في هذا المقال، سنستعرض كتاب الدكتور علي عبد الرؤوف "من مكة إلى لاس فيغاس"، الذي يوضح كيف أُلحقت أضرار بالمدينة المقدسة في السعودية، مما أدى إلى ابتعادنا اليوم عن جوهر الحج والعمرة الذي عاشه أجدادنا. يناقش الدكتور الموضوع من زاوية معمارية، وهي بلا شك الزاوية الأهم لفهم رؤية النظام السعودي تجاه مكة. ذلك لأن القيم التي تتبناها الحكومات والأنظمة تظهر بوضوح في العمران والتخطيط الحضري.من مكة الى لاس فيجاس |
أهلاً وسهلاً بكم، أصدقائي الأعزاء. أتمنى أن تكونوا جميعًا بخير إن شاء الله. في هذا المقال، سأناقش معكم أحد أهم الكتب التي تناولت التغيرات التي طرأت على تجربة الحج والعمرة في السنوات الأخيرة. كما سأتحدث عن كيف تحوّل المكان الذي من المفترض أن يعبر عن المساواة وروح الإسلام في أبهى صورة عالمية، إلى مكان يعكس - للأسف - الظلم وانعدام المساواة بين الناس.
لم يعد هذا المكان يذكر المسلمين بوحدتهم ومساواتهم، ولا بأن قيمتهم الحقيقية تُقاس بالتقوى. بل حتى فكرة الشعور بالراحة والحرية في هذا المكان، للأسف، لم تعد موجودة. فقد تم انتهاك قيم المدينة المقدسة واغتصاب روحانيتها إلى درجة دفعت البعض إلى الإشارة بسخرية إلى مكة، واصفين إياها بأنها أصبحت "لاس فيغاس" أو "ديزني لاند" الجديدة.
عنوان الكتاب
قد يكون عنوان الكتاب صادمًا للبعض، ففكرة تشبيه مكة، أطهر بقاع الأرض، بلاس فيغاس، مدينة القمار في الولايات المتحدة، قد تبدو للبعض مبالغًا فيها، بل وربما يراها غير مقبولة، إذ لا مجال للمقارنة بين مدينة الوحي ومدينة الخطايا. ولكن للأسف، كما سنناقش، فإن هذا التشبيه يحمل في طياته جوانب عديدة من الصواب، تعكس واقعًا يستحق التأمل والنقاش.
محتوى الكتاب
صدر الكتاب عام 2014 عن دار مدارات للأبحاث والنشر، ويبلغ عدد صفحاته حوالي 170 صفحة، مقسمة إلى خمسة فصول.
في الفصل الأول، يتناول المؤلف تاريخ مكة ومكانتها عند العرب والمسلمين، مع عرض موجز لتاريخها العمراني وآثارها. أما في الفصل الثاني، فيناقش العلاقة بين العمارة والروحانية أو القداسة، موضحًا تأثير المكان أو المبنى على النفس البشرية، وكيف يمكن أن تؤثر العمارة في العلاقة الروحية بين الإنسان والمكان.
أما الفصلان الثالث والرابع، وهما من أهم فصول الكتاب، فيتناولان تأثير القيم الرأسمالية المادية على دول الخليج بشكل عام، وعلى مكة بشكل خاص. يوضح المؤلف كيف فقدت مكة هويتها التاريخية، واستُبدلت بمكة هجينة لا تمت بصلة إلى تاريخها أو طبيعتها الأصيلة.
في هذا السياق، يجري المؤلف مقارنة بين لاس فيغاس ومكة المكرمة، ليبيّن كيف تحولت مدينة الوحي إلى نسخة مشابهة، من حيث المنطق والشكل والطابع المعماري، لمدينة الخطايا.
مكة في الماضي
من المهم أن نعود بالزمن إلى الوراء ونلقي نظرة على مكة وتجربة الحج والعمرة في كتاب رائع بعنوان "ألف طريق إلى مكة" للكاتب مايكل وولف. في هذا الكتاب، جمع وولف أهم روايات الرحالة والحجاج المسلمين الذين زاروا مكة والمدينة على مدار عشرة قرون. وتتنوع هذه الروايات بين أشخاص ينتمون إلى أعراق مختلفة، ولهم خلفيات ثقافية واجتماعية واقتصادية وطائفية متنوعة، مما يتيح لنا فهمًا أوسع وأعمق لتجربة الحج والعمرة عبر العصور.
من روايات سفر ابن جبير وناصر خسرو وابن بطوطة إلى محمد علي أفندي ومحمد أسد ومالكم إكس والليدي إيفلين وغيرهم الكثير، نجد أن ما دونه هؤلاء من جميع أنحاء العالم وعلى مدار الزمان عن تجربتهم في مكة يتمحور حول عظمة الحج في توحيد المسلمين من مختلف الأجناس والطبقات الاجتماعية.
هذه التجارب كانت تبرز كيف أن الحج كان يجسد الوحدة والمساواة بين المسلمين، مما جعل العديد منهم يشعرون بهذه الروح المشتركة، ويرون في هذا التجمع العالمي فرصة للتواصل الروحي والتقوي على الرغم من اختلافاتهم العرقية والاجتماعية.
تجارب السالفين
وقد دون ابن بطوطة مشاعره وتفاصيل رحلته إلى مكة، معبرًا عن تأثير تلك التجربة على نفسه بشكل عميق. ولما رأى الكعبة، وحقيقة من الصعب أن يشعر المسلم في القرن الحالي بنفس ما شعر به ابن بطوطة.
هناك فيلم وثائقي جميل جدًا اسمه "رحلة إلى مكة"، يوثق هذا الفيلم رحلة ابن بطوطة لأداء فريضة الحج عام 1325. أما مالكم إكس، الذي أدى فريضة الحج بعد انفصاله عن جماعة "أمة الإسلام"، فيعطينا نظرة ثاقبة لتجربة الحج التي لا يمكن تكرارها اليوم."
مالكوم إكس، عندما كان في مكة، كتب رسالة بتاريخ 20 أبريل 1964 لأحد أصدقائه. حقيقة، عندما نقرأ هذه الرسالة، نشعر بمدى الألفة والاطمئنان الذي شعر به أثناء الحج. وكيف وفرت تجربة الحج في ذلك الوقت فرصة فريدة للحجاج للتفكير بشكل نقدي في حياتهم وفي المجتمعات التي يعيشون فيها.
في هذه الرسالة الجميلة كتب الحاج مالكم: "إن ما خبرته في رحلة حجي هذه حملني على أن أعيد ترتيب كثير من أفكاري الماضية وأن أطرح جانبًا بعض نتائجِ السابقة. ففي غضون الأيام الأحد عشر التي أنفقتها هنا، طعمت طعامي من طبق مشترك، وشربت شرابي من كوب مشترك، وآويت مع إخوتي المسلمين إلى فراش واحد، عابدين لله الواحد لا شريك له. كنا بحق إخوة في الله. إيمانهم بإله واحد أزال من عقولهم سلوكهم ومواقفهم ما خالطها من غشاوات. لم يسبق لي أن شهدت مثل روح الأخوة الحقيقية الغامرة التي يمارسها الناس من جميع الألوان والأجناس هنا في هذه الأرض المقدسة."
كل تجارب هؤلاء الأشخاص الذين دونوا تجربتهم في الحج انتهت بنفس الطريقة وبنفس المشاعر المتشابهة. أى أننا أمام أمر في غاية الانبهار؛ كيف أن تجربة تمتد عبر كل هذه الأزمنة انتهت بنفس الطريقة. ويقول الدكتور عبد الرؤوف إن فلسفة الحج العميقة تكمن في شعور الجميع بالمساواة، وهو شعور لا يمكن تحقيقه في فريضتين من أهم فرائض الإسلام، وهما الصلاة وصوم رمضان.
توسعات سابقة
توالت إمبراطوريات ودول إسلامية مختلفة، واهتم كثير من حكام المسلمين بالحرمين، حيث قاموا بإجراء إصلاحات وترميمات وتوسعات للمكان لكي يستوعب المزيد من الناس. ومع ذلك، لم تكن هذه الإصلاحات والتوسعات تتم على حساب هدم كل ارتباط روحاني وتاريخي خاص بتجربة الحج والعمرة.
سحق المدينة المقدسة
فى أواخر القرن العشرين بدأت مكة تتغير بشكل جذري. قبل خمسينيات القرن الماضي، نادرًا ما تجاوز عدد الحجاج 200,000. ومع تطور وسيلة سفر الحجاج من الجمال والمراكب إلى السكك الحديدية والسفن البخارية والسيارات، أصبح الحج أسرع بكثير من السابق.
إلا أن طائرات الجامبو والانتشار السريع للطيران المدني أحدثت ثورة في الحج والعمرة. في غضون عقود قليلة، قفز عدد الحجاج من 300,000 في الستينيات إلى 700,000 في السبعينيات، ثم إلى 900,000 في الثمانينيات. من هنا تحديدًا بدأت تجربة الحج والعمرة تأخذ منحنى اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا مختلفًا عما كانت عليه في السابق.
نظرت العائلة المالكة السعودية للأمر كفرص استثمارية واقتصادية، وحشدت كل الإمكانات لاستيعاب المزيد من الحجاج كل عام، ولكن على حساب تاريخ وهوية المكان. بدأ السعوديون في إعادة تشكيل مكة بشكل قاسٍ وبدون رحمة، حيث هدموا معظم الأحياء والمعالم التاريخية، دون أن يدركوا قيمتها التراثية والإنسانية. لذا، استبدلوها بمولات التسوق والفنادق الشاهقة التي تجاوزت حتى إمكانيات الحجاج العاديين.
ويقول المؤلف إن أحياءً كاملة تعرضت لتغييرات جذرية، ونزح سكانها الأصليون إلى ضواحي مكة المكرمة أو بعض المدن المجاورة. يعود تاريخ هذه الأحياء إلى قرون مضت، حيث كانت الشوارع ذات النسق التقليدي، والأسواق الشعبية، وحتى المكتبات والمدارس والمقاهي القديمة في هذه المنطقة المركزية لمكة المكرمة قد دمرت بالكامل.
هُدمت 95% من تراث مكة، حتى المباني التي يعود تاريخها إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بينها بيت السيدة خديجة وعدد من المساجد التي هدموها أيضًا، تخيل المشاعر والألفة التي كانت متاحة للحجاج في الماضي عندما كانوا يتلمسون خطوات الرسول الكريم والصحابة، ويرون بأنفسهم كيف عاش الصحابة.
بيت أبي بكر الصديق الذي هُدم وبُني مكانه فندق هيلتون؟ كل بيوت الصحابة وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم دُكت دكًا، بجانب تدمير المقابر التي يعود تاريخها لأكثر من 1000 عام، ونسف الجبل بالكامل بالديناميت من أجل بناء مواقف للسيارات. وهدموا قلعة أجياد التي بناها العثمانيون لحراسة مكة.
الابراج العملاقة
تخيل انهم هدموا قلعة تاريخية في عام 2003 ليحل مكانها برج مكة العملاق.يقول المؤلف إن الأبراج هي عرض درامي للرأسمالية المتوحشة والفوارق المالية والطبقية المذهلة. أبراج البيت، التي تعرف أيضًا باسم برج الساعة الفندقي الملكي، يمكن رؤيتها من مسافة تتجاوز الكيلو متر، مجسدة تجاوزًا غير مسبوق في نسق العمران وخط السماء الذي ميز مكة المكرمة.
هذا البرج هو ثاني أطول برج في العالم بعد برج خليفة في مدينة دبي. طرازه هو خليط يثير التساؤل، حيث يجمع بين طراز ناطحات السحاب في مدينة شيكاغو في أوائل القرن العشرين وبين طراز برج الساعة "بيج بن" الشهير في العاصمة البريطانية لندن. أما محتويات الأبراج فتتمحور حول مجموعة متنوعة من الشقق والوحدات الفندقية والأجنحة الرفيعة المستوى.
أما الأكثر إيلامًا فهو أن هذه الأبراج تقف شاهدًا على تدمير موقع تراثي عالمي، وهو قلعة أجياد العثمانية التي أُزيلت بالكامل وبموافقة مراسم ملكية. لقد تحول النسيج العمراني المحيط بالحرم المكي إلى منظومة من الفنادق الكبرى والمجمعات التجارية. لم يتبقَ في مكة مكان يشعر بالإحساس بالتاريخ، فقد ضاعت ملامح مكة القديمة ولم يترك آل سعود أثرًا واحدًا يدل على ماضي مكة العريق.