مراجعة ونقد كتاب غيرة اللغات
هناك نوع من الكتب تشعر لفرط جمالها بالغيرة نحوها فتميل إلى الاستئثار بها مخافة أن تقع في يد من لا يمنحها قدرها خصوصًا حينما تقع على هذا الكتاب صدفة ولا يعرفه أغلب القراء فتنظر له وكأنه كنزك السري أو زهرتك الجميلة التي ترغب في حمايتها كما فعل الأمير الصغير في الرواية الشهيرة، ولأن قدركم رفيع في قلبي لن أستأثر بكنزي وزهرتي الجميلة فدعونا نستعرض كتاب "غيرة اللغات" للكاتب الأرجنتيني أدريان برافي .
مراجعة كتاب غيرة اللغات |
كتاب هذا الأسبوع لم أسمع من قبل باسم مؤلفه (أدريان برافي) ولم أكن أعرف مترجمه الذي اتخذ الاسم المستعار (أمارجي) ولا أدري من أي سماء سقط علي هذا الكتاب ومع ذلك حينما طالعته وجدته من أجمل وألذّ ما قرأت في موضوعه على الإطلاق.
فمع أننا في هذه المدونة استعرضنا كثيرًا من الكتب حول اللغة مثل كتاب اللغة والمجتمع وكتاب نشأة اللغة عند الإنسان والطفل وكتاب الخصائص وكتاب دلالة الألفاظ لكنها جميعًا مكتوبة بلغة تنظيرية أو أكاديمية مقسّمة إلى أبواب وفصول ومعلومات تحتها ، لكن كتاب هذا الأسبوع لا يفعل ذلك.
أسلوب المؤلف
مؤلف الكتاب يتحدث عن اللغة بطريقة مدهشة وخصوصًا اللغة الأم اللغة الأولى التي يكتسبها الإنسان وإلى أي درجة تشكّل هذه اللغة تصوراتنا وذكرياتنا هل نحن نتذكر ونشعر بالطريقة نفسها بلغتين مختلفتين؟ وماذا يعني أن يعيش الإنسان منفيًا ومغتربًا عن لغته الأم؟.
لماذا عمد أدباء كبار على الكتابة بغير لغتهم الأم؟ وهل يمكن أن تموت اللغة الأولى؟ هل يستطيع الإنسان أصلًا أن يتخلى عن لغته؟ كيف تحمينا اللغة وكيف تقتلنا؟ والمؤلف حتى يتطرّق لكل هذه المسائل يستدعي سيرته الذاتية والشواهد التاريخية وقراءاته المتنوعة للأدب وكتبها بلغة شاعرية فاتنة تستلذ بقراءتها.
عن المؤلف
أدريان برافي كاتب أرجنتيني، الإسبانية لغته الأم لكنه انتقل بعد أكثر من عشرين سنة إلى إيطاليا واكتسب اللغة الإيطالية وهذا التحوّل اللغوي دفعه لتأملات ونظرة مختلفة نحو لغته الأم الأولى الإسبانية لم يكن يدركها قبل أن يبتعد عنها ولذلك كان المؤلف يؤكد في عدة مواضع أن اللغة تصبح في ملكنا عندما نفقدها.
وأول ما أدركه عندما عاش مغتربًا عن لغته الأم أن الكلمات لا تحمل المعنى نفسه عند المتكلّم بها في لغتين مختلفتين لذلك كانت كلمة الوزغ بالإسبانية تختلف بالنسبة له عنها بالإيطالية بل هي في مخيلته أقرب إلى حيوانين مختلفين فالكلمة بالإسبانية لغته الأم تعيده إلى طفولته.
عندما كان يطاردها مع أبناء عمومته ويقطعون ذيلها وتذهل أعينهم لاهتزاز الذيل بعد قطعه ويصرخون الكلمة بالإسبانية تحمل كل هذا في حين تفتقر الكلمة الإيطالية إلى هذه الحصيلة من الذكريات ولذا كانت الإيطالية بالنسبة له لغة بلا طفولة ونادرًا ما يشعر بالحنين فيها حتى الكلمات في نفس اللغة والتي كنا نستعملها في طفولتنا وفقدناها أو استحالت إلى كلمات أخرى لا تحمل نفس المعنى.
أنا على سبيل المثال، كلمة "أبويا" لا تحمل نفس المعنى عندي مع كلمة "أبوي" اللي أستعملها الآن لأن الأولى مرتبطة عندي بطفولتنا حينما كنا إذا سمعنا قرع مفاتيح الأبواب لوالدي عند عودته للمنزل في آخر اليوم ننشد بصوت جماعي "أبويا جا أبويا جا" ونسرع لنأخذ أكياس الطعام من يده فصارت "أبويا" مرتبطة إلى اليوم في مخيّلتي بصوت مفاتيح أبي، وأكياس الطعام.
الكلمات التي نرتضعها من لغتنا الأم تلتصق بعالم من الذكريات وحينما تختفي هذه الكلمة فإن العالم الذي تحمله هذه الكلمة كما يقول المؤلف يختفي ويندثر معها وهو ما يفسّر لماذا نتحرّج أحيانًا من بعض الكلمات في لغتنا الأم في حين نستسهل التعبير عنها باللغات الأخرى.
وقد نعمد كطريقة للمراوغة إلى ذلك لأن اللغة الأخرى مبتورة من الذكريات والحمولة الثقافية نحن اعتدنا أن تكون الذكريات مرتبطة بالأماكن والأطلال
لكن المؤلف في هذا الكتاب يشير إلى معنى أعمق في ارتباط الذكريات بلغتنا الأم بل باعتبار الذكريات جزءًا من لغتنا وهو ارتباط أشد لأنك تستطيع أن تنتقل من نقطة إلى أخرى في فضاء المكان لتبتعد عن ذكرى مؤلمة ارتبطت بمكان ما لكنك ستجدها مختزنة في لغتك كما حدث مع المؤلف حينما ارتحل من الأرجنتين التي عانت ويلات الديكتاتورية.
لكنه لم يستطع الخلاص من ذكرياته بل ظلت بعض الكلمات كما يقول تطن في رأسه من تلك الحقبة المظلمة حتى كتب على لسان إحدى شخصياته في رواية له مقطعًا يختصر هذا المعنى :يقول فيها
بمرور الوقت بدأت أشعر أنني عاجلًا أو آجلًا راحل عن بلدي ربما إلى مكان يمكن لي فيه أن أفكر وأتحدث بلغة أخرى لأنني هناك كنت أشعر بأنني سجين الكلمات كل شيء كان يذكرني بجزر مالفيناس: بالخندق، والأقدام المغموسة، وطائرات الهليكوبتر لقد قال لي والدي ذلك، قال: عليك أن تتعلم لغة أخرى من جديد لكي تتمكن من التفكير والحلم بمنأى عن ذكرى تلك الكلمات القديمة لغة جديدة، وحرية جديدة.
عن الكتاب
الكتاب يقع في 170 صفحة تقريبًا مقسّم إلى 29 عنوان أو مقالة كل واحدة تقع في صفحتين إلى خمس صفحات تقريبًا تزيد وتنقص وهذا ما يميّز الكتاب أنه يختار زاوية فيكتب عنها بشكل مكثّف في صفحات يسيرة ثم ينتقل إلى زاوية أخرى وهو يستدعي في هذا الكتاب قراءاته في الأدب ويستشهد كثيرًا بالكتّاب الذين مروا بنفس تجربته في التحول من لغة إلى أخرى وينقل تأملاتهم حول اللغة وتجربتهم.
اللغة كوسيلة دفاع
والمؤلف تحدث تحت عنوان "اللغة كوسيلة دفاع" عن الذين يلجأون إلى لغة جديدة حتى تمنحهم فرصة لمحو الذكريات أو مواراتها أو لتخلق ما يشبه مسافة الأمان بعيدًا عن صخب المشاعر التي يمكن أن تتسبب بها كلمات اللغة الأم كما فعل الشاعر الروسي برودسكي مع والديه في فترة الاتحاد السوفيتي.
حينما أراد لهما أن يعيشا حياة جديدة بعيدًا عن حياتهما السابقة فعهد بهما إلى اللغة الإنجليزية فوصف المؤلف ما قام به برودسكي من اقتلاع والديه من لغتهما الأم إلى لغة أجنبية، فقال: "يدفن برودسكي والديه لغويًا" وأحيانًا يضطر المرء إلى إنكار لغته الأم إذا تحوّلت إلى مصدر تهديد له ومع ذلك قد تخونه لغته وتقتله.
واستشهد المؤلف بقصة وردت في سفر القضاة لرجال جلعاد الذين كانوا يمنعون رجال أفرايم من العبور فكان إذا جاءهم رجل يريد العبور، سألوه :"أنت أفرايمي؟" فإذا قال: لا طلبوا منه حتى يتأكدوا أن ينطق كلمة "شيبولت" لصعوبة نطقها عليهم فإذا نطقها بالسين "سيبولت"، عرفوا أنه كاذب فيذبحونه.
واستشهد أيضًا بقصة مقتل 4 آلاف فرنسي خانتهم لغتهم في نطق كلمة حمص باللغة الصقلية ومن هنا أشار المؤلف إلى عبارة نقلها عن رولان بارت بأن "كل امرئ سجين لغته" كلمة واحدة تنطق بها، تشير إليك، وتحدد موقعك، وتعلن عنك وعن تاريخك وتكشف النقاب عنك وتعرّيك أمام الآخر.
من الذي يتحدث من خلال الآخر؟
وهو ما يدفعنا إلى تساؤل مهم طرحه المؤلف: وهو من الذي يتحدث من خلال الآخر؟ أنت تعتقد أنك تتحدث من خلال اللغة لكنك تجد أن اللغة هي أيضًا تتحدث من خلالك وتقول عنك أحيانًا ما لم ترِد أنت قوله وتتملكك كما تتملكها وحتى عندما تلجأ إلى لغة أخرى فإنها لا تحل أبدًا محل اللغة الأم.
بل تصوغ اللغة الأم صوتها داخلها فتشوّش على صوت اللغة الأخرى غيرة منها وتغيّر بناء الجمل فيها وتظل حية في أعماقنا لا تموت، ونرى ونؤوّل العالم من خلالها، لأن في داخل اللغة تتأسس هوية المرء وهو ما دفع ببعض الكتّاب إلى التمسك بلغتهم الأم حتى وإن تحوّلت إلى لغة موت أو اضطرتهم إلى المنفى لأنهم يجدون فيها انتماءاتهم وهويتهم.
كما حدث مع الفيلسوفة الألمانية "حنة آرندت" وكانت اللغة الألمانية بعد هتلر لغة منبوذة ومعادية لكن "حنة آرندت" رفضت أن تتنكر للغتها الأم أو تفقدها كما فعل غيرها لأنها تعد الألمانية مكان انتمائها ولا توجد لغة يمكن أن تحل محل اللغة الأم ومثلها الشاعر بول سيلان الذي قال له أصدقاؤه بأنه لا يجدر به الكتابة بلغة قتلة والديه في المعسكرات النازية.
أختم هنا بقصة لعمة المؤلف تشرح كيف أن الذاكرة شكل من أشكال اللغة وأننا لا نتذكر بالطريقة نفسها بلغتين مختلفتين كما أننا لا نروي القصة نفسها بلغتين مختلفتين وكيف تختزن اللغة الأم ذكرياتنا بصورتها الحقيقية يقول:
"كانت لي عمة، أخت لأبي غادرت بعد الحرب مباشرة من سامبوكيتو إحدى بلدات مقاطعة ماتشراتا الإيطالية لتتوجه إلى الأرجنتين غادرت ميناء جنوة بصحبة زوجها وهو بولندي كانت قد التقته أثناء محاولته الاختباء من القصف الألماني وابنٍ لهما لم يكد يبلغ عمره أربعة أشهر.
كانت السفينة التي كانوا يسافرون على متنها قد عبرت منذ قليل خط الاستواء وكانت قد نفدت إمداداتهم من مياه الشرب أصيب جميع المسافرين بالذعر ولم يترك الطفل لحظة واحدة حلمة أمه ربما كان هو أيضًا خائفًا وبقي طوال الوقت ممسكًا بها بين لساته كما روت لي عمتي.
بالحلمة الأخرى الحرة تعلّق أطفال آخرون كانوا يبللون شفاههم بذلك النزر من الحليب الذي تيسّر لهم امتصاصه كانت الأمهات كما روت عمتي يتضرعن إليها أن تنجد أطفالهن وكانت هي تفعل كل ما في وسعها بما أوتيت من حليب في صدرها ، الأطفال الذين لم تُكتب لهم النجاة كانوا يلفونهم بغطاء سرير أبيض ويرمونهم في البحر.
أحصت عمتي منهم خمسة وذلك الرقم بقيت تحمله في داخلها كإثم لبقية حياتها "خمسة أطفال لم أتمكن من إمساك رمقهم" كانت تقول لم أر قطّ عمتي تبكي وهي تروي هذه القصة بالإسبانية لغتها المتبناة حتى وإن كان جليًا أنها كانت في غاية التأثر على الرغم من مرور عدة سنوات على الحادثة .
ولكن عندما سمعتها ذات يوم ترويها بالإيطالية، رأيتها تبكي لأول مرة! حينذاك خطر في فكري أن هناك منطقة خفية من الذاكرة يصبح فيها الماضي صوتًا بلغة معينة كان من المحطّم لقلب عمتي استحضارها تلك الذكريات بلغتها الخاصة اللغة التي رأت فيها الأمهات أطفالهن يُلقى بهم في البحر أو اللغة التي عاشت فيها تلك الحادثة .
ربما كانت الذكريات لا تتحدث إلا اللغة التي وقعت فيها أحداثها أن تجعلها تتحدث بلغة أخرى يبدو كأنك تضع عليها قناعًا أو تكشط عنها لونها."
لاحظوا كيف اختصر من خلال قصة قصيرة في صفحة ونصف ما يمكن أن تقرأه في كتب اللغة ودلالات الألفاظ بصورة أبلغ منها، وأعمق تأثيرًا وهذا ما عنيته في أول المراجعة عندما قلت أنه يتحدث عن اللغة من خلال اللغة بطريقة مدهشة ولغة فاتنة جدًا ونظرة عميقة لفكرة الذاكرة والحنين والمنفى والاغتراب والهوية.
بما لا يمكن وصفه في هذه المراجعة ما لم تتذوقه بنفسك ونظرة على عناوين الموضوعات في الفهرس تظهر لك كيف تتجسّد لغة أدريان برافي حيّة مليئة بالتصاوير ستجدون على سبيل المثال: أمومة اللغة، لغة الحب، ضيافة اللغة، اللغة العدو غيرة اللغات، كل امرئ سجين لغته، شعرية الفوضى منفى، أصدقاء زائفون.
عن المترجم
كل أجنبي هو مترجم على طريقته الخاصة، لغة الموت وغيرها من العناوين التي تعكس جمال اللغة في الكتاب والتي تجعلنا نشيد بالمترجم رامي يونس أو أمارجي الذي استطاع نقلها لنا وأن يحافظ على شعرية اللغة في الكتاب، اقرؤوا معي مثلًا هذه الجملة: "لم يكن رحيلي رحيلًا صوب إيطاليا أو صوب أوروبا وإنما كان ببساطة رحيلًا بقصد الرحيل عن بلدي كانت الرغبة في الرحيل أقوى من الرغبة في حط الرحال."
لا تشعر أنك أمام لغة مترجمة فحمدًا لله أن وقع الكتاب في يد مترجم أمين مثله ، ولا عجب فهو شاعر كما وجدت لما بحثت عنه ويترجم أيضًا من الشعر الإيطالي وله اتصال بالمؤلف وفي آخر الكتاب حوار جرى بين الكاتب والمترجم وسأله المترجم بالمناسبة عن شعوره تجاه ترجمة كتابه إلى اللغة العربية فأجابه بأنه في طفولته لطالما تخيل نفسه داخل قصة من قصص ألف ليلة وليلة وأن استضافة اللغة العربية لكتابه تعيد إليه أحلامه الطفولية.
تقييم الكتاب
الكتاب غنيّ بالعناوين والتوصيات والمترجم بذل جهدًا كبيرًا في الحواشي فكتب نبذة لكل اسم ورد في الكتاب وأنا أتفهم أن بعض القراء لا يحبّذ هذا النوع من الكتب الذي تحتشد فيه الاستدعاءات لأن القارئ قد يتشتت بكثرة الأسماء وأحيانًا وهذا بالنسبة لي عيب في بعض الكتب التي تتخذ هذا الأسلوب تخلق هذه الاستدعاءات فجوة بين الكاتب والقارئ.
فحينما يستشهد الكاتب بجزء من قصة أو كتاب أو فكرة بشكل مقتضب لا يفهمه إلا من هو مطلع أصلًا عليها وهذه المشكلة أجدها في بعض كتابات ألبرتو مانغويل على سبيل المثال الذي أفقد اتصالي معه لهذا السبب ، أدريان برافي في اعتقادي لم يقع في هذه المشكلة كان يجيد استدعاء النصوص بالقدر الذي يفهمها القارئ ويفهم موضعها من الفكرة دون أن يطنب فيها.
وهي معادلة صعبة كيف تستطيع أن لا تنقل الاستشهاد كاملًا وتشرح تفاصيله وفي نفس الوقت تنقله بالقدر الذي يضمن فهم القارئ دون الإخلال به واستشهاداته واستدعاءاته للنصوص رائعة تثري الفكرة وتتسق معها ومع لغة الكتاب وكل ما قلته في المراجعة عن الكتاب ما هو إلا جزء يسير من جماله وحتى من حيث الموضوعات المطروقة هي أكثر مما نقلت.
الفائدة
كتاب غيرة اللغات كتاب يقترب من الكمال في موضوعه ولغته وترجمته وحتى في رصف الكلمات وتنسيقها حتى أني طلبت بالإضافة إلى نسختي ثلاث نسخ من الكتاب حتى أحتفظ بواحدة إضافية وأهدي البقية لبعض أصدقائي أتمنى لو عندي نسخ بعددكم حتى أهديها لكم لأني أعد كل واحد هنا صديقًا لي .