مراجعة ونقد رواية العمى
سيتكشف لنا من خلال هذا العالم الذي انتشر فيه وباء العمى انهيار قيم، وتغير مفاهيم اظهرها لنا العمى، وهذه مفارقة لفظية، لأننا من خلال العمى سنرى آفات وأمراض في المجتمع، كان يعمينا عن رؤيتها قدرتنا على الرؤية، فدعونا نستعرض رواية العمى للروائي البرتغالي جوزيه سراماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب، والمتوفى سنة 2010.
رواية هذا الأسبوع التي نشرت سنة 1995، ستكشف لنا إجابات الأسئلة الماضية. فأحداثها تدور حول تفشي وباء يصيب الناس بالعمى وعلى أن الرواية خيالية من حيث التصنيف الفني، إلا أنها ممكنة، بمعنى إن وقوع وباء قادر على الإصابة بالعمى ليس مستحيلا من حيث المنطق.
فالحواس قد تفقد نتيجة لبعض الأمراض مثل ما حدث مع بعض من أصيبوا بكورونا، من فقدان مؤقت لحاسة الشم والتذوق فليس الخيال هنا مثل الخيال في رواية انقطاعات الموت مثلا، والتي تخيل الكاتب فيها انقطاع الموت عن بلدة ما.
بداية الوباء
تبدأ أحداث الرواية بسائق عمره 38 سنة، يقف عند تقاطع إحدى الإشارات المرورية في انتظار الإشارة الخضراء، تنطلق كل السيارات مسرعة باستثناء سيارة واحدة متوقفة. هل أصاب عطل ميكانيكي؟ أو نفت البنزين؟ أبواق السيارات ترتفع، أصوات شتائم تعلو، ترجل بعض السائقين من سياراتهم، طرقوا نوافذ السيارة المغلقة.
يلتفت السائق يمنة ويتمتم بكلمات غير مسموعة، فيفتح أحدهم الباب ليصرخ السائق أنا أعمى، أنا أعمى، دون أي مقدمات يصاب السائق بالعمى، وهكذا يبدأ ساراماغو الرواية بهذا الحدث المتخيل الذي سيبني عليه عالمة ، وسراماغو من الروائيين الذين يجيدون القبض على القارئ منذ اللحظة الأولى.
فهو ليس بحاجة إلى أن يمهد الحدث الرئيسي، بل يبدأ به مباشرة صفحاته الأولى، ويكسب فضول القارئ. كما فعل في رواية انقطاعات الموت حينما بدئها بهذه العبارة "في اليوم التالي لم يمت أحد"، . يساعد الأعمى رجل كان في موقع الحدث ويقوده إلى بيته بسيارة الأعمى، ومازلنا بالمناسبة في أول الرواية ما أحرقت أحداثها.
السرقة
ولم يكن عند الرجل الذي ساعد الأعمى في اصطحابه إلى بيته بسيارته أي نية مسبقة لسرقة سيارة الأعمى، لكن الفرصة أغرته بعدما أوصله إلى بيته فسرق السيارة، مما جعل المؤلف يناقش في إحدى مواضع الرواية الموقف الأخلاقي من هذا اللص، وهل الجريمة اختيار شخصي؟ أو هي متجذرة في طبيعة الإنسان؟ أم أن الفرصة هي من تساعد في صناعة اللصوص.
وهذي بالمناسبة من ضمن المسائل التي تتباحثها الأنظمة التشريعية، وتتفاوت في درجة عقوباتها حتى في الشريعة الإسلامية توجد فكرة الحرز التي تعد شرطا في حد السرقة، فحينما يسرق لص مالا، سواء كان بمعناه النقدي أو العيني، إذا سرقه بعد اقتحام البيت مثلا في المكان الذي يحفظ فيه عادة غير لما يسرق وهو في غير محله أو حرزه.
على كل حال، لن تكون خسارة صاحبنا الأعمى سيارته أعظم من خسارته لبصره، فدعونا ننتقل لما حدث له بعد حيث أخذته زوجته لطبيب العيون، وكان في العيادة طفل مصاب بالحول وفتاه بعين ملتهبة، ورجل كاهل في عينه عصابة سوداء، وكانت المفاجأة أن عيون الأعمى بعد فحصها لدى الطبيب، بدت سليمة تماما لا تشكو من أي شيء، لكنه مع ذلك كان أعمى.
العمى الأبيض
إلا أن عماه كان مختلف فكان يرى الأشياء كلها باللون الأبيض وكأنه غارق في بحر حليبي ، فهل المشكلة في الدماغ إذ ا؟ لأنن العين ما هي إلا وسيلة لنقل الصورة إلى الدماغ، والدماغ هو من يحدد ماذا ترى بعد معالجته لإشارات العين، فالعين أشبه بحساس أو سنسور، إن صح التعبير.
ربما توهمنا حتى هذه اللحظة ان الرواية ستتمحور حول شخصية هذا الرجل الاعمى، وما سيجري له، لنكتشف انه ليس بطل القصة ولا شخصيته رئيسية فهو لن يكون الاعمى الوحيد في الرواية، فاللص الذي سرق سيارته قد أصيب بعدها بالعمى أيضا، وقبل ان تفرح لعدالة الوباء لم يكن اللص وحدة من اصابته العدوى.
بل كل الذين كانوا في عيادة الطبيب حينما جاءه رجل اعمى قد أصيبوا به بمن فيهم الطبيب نفسه، وبنفس العمى الذي أصاب المريض في عيادته عمى ابيض، بحر حليب. بقي الوباء لا يحابي أحدا، ربما أراد المؤلف التأكيد على هذا حينما جعل المجموعة التي سلط عليها الضوء متنوعة بين الطبيب والسارق والمرأة البغي والطفل الصغير، والرجل الكهل وغيرهم.
رمزية الرواية
وإذا قلنا بأن العمى هنا يرمز إلى الجهل، وعمى البصيرة في هذا الإشارة إلى أن وباء الجهل إذا حل يصيب كل أحد، طبيب كان أو لصا، يدرك الطبيب أنه أمام حالة عدوى قد تصل إلى الوباء. فيتصل بوزارة الصحة، لكن الموظف الذي تلقى المكالمة لم يأخذ تحذيره على محمل الجد بل سخر منه.
وهذا يكشف جانبا من هشاشة بعض الأنظمة التي قد تنهار بسبب تصرف فرد واحد فيها، وربما هذا الموقف يستدعي فيه قصة الطبيب الصيني الذي كان أول من حذر من فايروس كوفيد، فلم يؤخذ التحذير على محمل الجد، بل حذر من نشر الإشاعات حتى تفشى الوباء، ومات الطبيب يسبب كورونا.
ولكم أن تتخيلوا أن كل ما حملته هذه السنة بكل خسائرها البشرية والاقتصادية والرياضية والسياسية والنفسية، أيضا لربما ما كانت تحدث لو أخذ تحذير الطبيب الصيني على محمل الجد واحتوي الوباء لحظتها، طبعا وأنت تقرأ هذه الرواية ستجد تقاطعات كثيرة، بينما حدث أثناء تفشي وباء العمى في القصة وما حدث أثناء تفشي وباء كورونا.
بدأ من محاولة الحكومات احتواء الوباء من خلال عزل المصابين في محاجر صحية، بل وعزل حتى المخالطين ثم على تزايد الحالات وصعوبة توفر مرافق لعزل كل المصابين، وخدمتهم، طلب من كل من أصيب بالعمى البقاء في المنزل، واعتناء أهله به، لكن مع فارق الحالتين بطبيعة الحال.
غياب السلطة
فما الذي سيحدث لو أصيبت العائلة كلها بالعمى؟ كيف ستعتني بنفسها وسرماغو من خلال الإجراءات التي تمت لاحتواء؟ الوباء يكشف بعض الثغرات في الأنظمة الصحية، بدءا من عدم توفر المرافق الكافية، حتى احتاجوا إلى عزل المصابين في مستشفى المجانين، وكشف أيضا تعاطي الناس مع الأوبئة.
ففي أول الوباء حينما لا يصيب إلا قلة، يتساءل المصاب في نفسه لماذا انا من بين باقي البشر؟ وينظر للمصاب كمرتكب للجريمة، وهذا تجسد في العراك الذي حصل بين الرجل الأعمى الأول، وبين اللص الذي سرق سيارته حينما اجتمعوا في الحجر الصحي، الأول يقول سرقت سيارتي، والثاني يرد سرقت بصري.
ويظهر أيضا في دعوة مسؤول للتخلص من كل المصابين بقتلهم، أو في تعليمات الحجر التي تحذرهم بأنه مهما حصل داخل الحجر حتى لو اشتعلت النيران في الداخل، أو مات أحدهم، فلن يحدث أي تدخل خارجي، وسيدفن عميان جثمان موتاهم، وكل ما سيقدمونه لهم توفير الطعام غير الكافي أيضا، وحتى الطعام عليه مسؤولية توزيعه بينهم.
وهنا يصور سرماغو ما يحدث عند الغياب التام للسلطة في مجتمع من العميان، السلطة بكل أشكالها الداخلية أو الخارجية، بمعنى أن العميان في الحجر. لم تكن هناك سلطة داخلية بينهم أول الأمر، ولم تكن هناك سلطة خارجية ستفرض القانون إذا اختلفت داخل، لأن وجود السلطتين أو أحدهما يحفظ نظام المجتمع.
ففي داخل البيت هناك سلطة داخلية أو داخل المدرسة أو الجامعة أو الشركة، وهناك سلطة خارجية متمثلة في الحكومة التي قد تتدخل إذا اختلت السلطة الداخلية أو حدثت مشكلة كبيرة، وكلا السلطتين تؤثر في الأخرى، لكن في حالة الحجر الصحي. كانت السلطة غائبة تماما، هم من عليهم أن ينظموا أنفسهم بالطريقة التي يرونها مناسبة.
نظرة الكاتب
سراماغو يحمل نظرة تشاؤمية تجاه هذه المسألة. تكمن في استعداد الناس متى ما غابت السلطة التامة في الرجوع إلى قانون الغاب الذي تكون السلطة فيه بيد الأقوى، وتفسر الرواية القوة في شيئين الطعام والسلاح، فحينما استولى الجماعة من المصابين في الحجر على الطعام، وكان معهم السلاح، استولوا على كل شيء.
مع أنهم حاولوا أول الأمر أن ينظموا أنفسهم بطريقة ديمقراطية ومع ان جماعة المسلحين كانوا قلة من حيث العدد، لكنهم استولوا على السلطة بالطعام والسلاح، ولا أريد أن أذكر أمثلة لما فعل، وحتى ما أحرق الرواية لمن لم يقرأها، بالمناسبة هل قلت في أول المراجعة أن الوباء أصاب كل أحد؟ في الحقيقة، ليس تماما.
المبصر الوحيد
كان هناك استثناء وحيد، فزوجة طبيب العيون الذي أصيب بالعمى، مع أنها اختلطت به لم يصبها العمى، وحينما أخذوا زوجها للحجر الصحي في مستشفى المجانين، وهذه الأحداث مرة أخرى هي في أول الرواية حينما أخذوا زوجها ادعت أنها أصيبت بالعمى، فأخذوها معه.
لأن بإمكان أي أحد أن يدعي فالعين تبدو سليمة تماما عند المصابين ومع ذلك وعلى الرغم من اختلاطها بزوجها وبالمصابين في الحجر الصحي، الذين كانوا 50، ثم وصلوا 300، لم يصبها العمى، وظلت تتظاهر حتى مع المصابين، أنها مثلهم لا ترى زوجها فقط من يعرف.
وإذا كنت تسأل عن تسر عدم إصابتها، وتظن الرواية ستكشف السبب، فأعتذر لإحباطك مرة أخرى، لأن سراماغو لن يتطرق للسبب، ولا يعنيه ذلك، بل سيتركه مجهولا كما فعل مع الوباء نفسه، مع فكرة رواية انقطاعات الموت يكون لك عالم متخيل ا ترى فيه ما لم تبصره في عالمك الواقعي.
لكن دعونا نتوقف قليلا. هل يعني هذا أن زوجة الطبيب المبصرة كانت مع العميان في الحجر، ومع ذلك لم تستطع أن تفعل أي شيء في ظل الغياب التام للسلطة، وظهور أولئك المستبدين الذين استحلوا البقية في أول الأمر؟ نعم، وإذا ما قلنا بأن سراماغو في هذه الرواية يرمز بالعمى إلى عمى البصيره أو الجهل.
فهو بهذا المشهد يؤكد على أن القوة ليست دائم ا بيد المبصرين أو العقلاء، وأنه لا يكفي أن ترى لتحكم أو لتغير الواقع، ما دام الطعام والسلاح بيد غيرك، فالجهل إذا استشرى يتأثر به كل أحد حتى أولئك المبصرين، وربما يجسد هذه الفكرة تحديدا مشهد مؤلم وقع لزوجة الطبيب .
مرة أخرى. لن أذكره حتى لا أحرق الرواية، فلم تكن زوجة الطبيب كما قد نتوهم أشدهم حظا لأنها المبصرة الوحيدة بين مجتمع من العميان، كما يقول المثل في بلد العميان يصبح الأعور ملكا، بل كانت أشدهم ألما، لأنها كانت شاهدة على كل ما آل إليه مجتمع العميان من انهيار أخلاقي وقيمي.
فكانت تراقب سرقة الطعام، تشهد تدني بل انهيار النظام الصحي والنظافة، لأن الناس كانت تقضي حاجاتها في كل مكان بلا مسؤولية لغياب من يرى، وهذا جانب من غياب السلطة، السلطة التي يفرضها وجود الناس مع بعضهم، أو بتعبير أدق التي تفرضها رؤية الناس لبعضهم.
اختلال القيم
كما سنكتشف أيضا حجم القيم التي اختلفت وتأثرت بغياب البصر، قيمة الجمال على سبيل المثال، والتي تجلت في علاقة الحب بين الفتاة ذو النظارة الداكنة والرجل العجوز ذو العصابة السوداء على عينه ، طبعا بالمناسبة للمترجم اختار مفردة العجوز لوصف هذا الرجل الكبير في السن لكن في اللغة العربية وفي القرآن عجوز تطلق في وصف المرأة، وليس الرجل.
عموما كان هذا الرجل دميم الوجه، كبير السن، وصار يخشى إن عاد البصر أن تختفي كل وعود الحب التي تلقاها من تلك الفتاة. إلى أي مدى ترتبط مشاعرنا بعيوننا؟ لا نتحدث بالضرورة على مشاعر الحب لكن مشاعرنا كثيرا ما تتأثر بأسباب لها واعية وبعضها يتأثر بملامح الآخر مدى شبهه بشخص نعرفه، نحبه، أو لا نستسيغه، سواء أدركنا هذا أو لم ندرك.
أيضا. سنجد أن العنصرية التي اتخذت من ألواننا وأشكالنا وسيلة لتمييز بعضنا، كيف ستعيد إنتاج نفسها من خلال اتخاذ معيار آخر وكأنما هذه صفة متجذرة في طبيعة الإنسان البشرية ،أيضا بغياب البصر سنؤمن بأهمية الذاكرة التي كانت وسيلة العميان الوحيدة للقصص، حيث كانوا يتمنون لو كان من بينهم من يحفظ الإنجيل عن ظهر قلب، ليحكي لهم كل شيء، منذ بدأ الخليقة.
حتى فكرة المرض اختلفت، فإذا كان المرض هو الخروج عن الحالة الطبيعية فماذا سيحدث لو أن صورة المرض صارت هي الحالة الطبيعية، وتحول الناس كلهم عميانا كما حدث في الرواية؟ قد تقول: لكن في العمى نقص القدرة على النظر، وعندها سأسألك ماذا لو ولد إنسان بأجنحة قادرة على الطيران؟ هل سنصف بقية البشر؟ نحن بالمرضى لأننا نفتقد الأجنحة والقدرة على الطيران؟
هدف الكاتب من الرواية
الرواية تدفع للتأمل في مفهوم فكرة المرض، وهل اتسام واتفاق الكل أو الغالبية على شيء ينفي عنهم صفة المرض أو لا؟ فلك أن توسع مفهوم المرض بكل معانيه الحسية والعقلية والاجتماعية وغيرها، وكانت زوجة الطبيب المبصرة أكثر من يدرك أن العمى الحقيقي الذي يعاني منه الناس هو عمل البصيرة والجهل.
حتى قالت زوجة الطبيب في آخر الرواية لا أعتقد أننا صرنا عميانا، أعتقد أننا عميان أصلا عميان بوسعهم أن يروا لكنهم لا يرون، وكانت زوجة الطبيب هي الشخصية الرئيسية في الرواية ، صحيح أن الرواية بدأت من مشهد إصابة الرجل الأعمى الأول لكن بعد دخول المصابين للحجر صار السرد يدور غالبا في محيطها.
لم يكن السرد على لسانها يعني بضمير الراوي. بل كان بصوت الراوي العليم الذي يحكي القصة من الخارج في محيط المرأة المبصرة وكأنه عين مبصرة أخرى أشبه بكاميرا تتبعها وتنقل لنا ما يجري حولها، وكانت هي ومجموعة صغيرة، الرجل الاعمى الأول، والفتاة ذو النظارة الداكنة، والطفل المصاب بالحول والنصف، بالإضافة لزوجها، هم أول من دخلوا الحجر.
ولذلك بمجرد دخولهم من الحجر سرنا كقراء مثلهم في الحجر لا نعرف ماذا يجري في الخارج بعد تفشي الوباء؟ أو لأكون أكثر دقة؟ صرنا مثل زوجة الطبيب التي تبصر داخل الحجر لكنها لا تعرف ماذا جرى في الخارج، ولأن السرد كما قلنا كان في أغلب الأحداث إنما ينقل ما يجري في محيط زوجة الطبيب.
عمد سرماغو في الرواية إلى إدخال شخصية الرجل ذو العصابة السوداء في دفعة متأخرة ومعه راديو، ثم حكى لهم أخبار العالم الخارجي، وكيف انهارت وسائل النقل مثلا لكثرة الحوادث بسبب الإصابة المفاجئة للسائقين بالعمى، حتى لم يعد أحد يأمن على نفسه فيها ويثق بها.
لا مكان ولا زمان
بالمناسبة هل لاحظتم إني من بداية المراجعة؟ لم أذكر اسما واحدا باستثناء طبعا اسم سراماغو، لا مكان ولا زمان ولاأشخاص، فنحن لا نعرف في الرواية أين تجري الأحداث، ولا نعرف أسماء الشخصيات، كنت أقول فقط الرجل الاعمى أول اللص ،الطبيب، زوجة الطبيب، المرأة ذو النظارة الداكنة، الرجل ذو العصابة السوداء، طفل مصاب بالحول. لماذا اختفت الأسماء؟
ربما تعمد سرماغو هنا أن يشعر القارئ بنوع من العمى، حيث تفقد الأشياء والأشخاص أسمائها، فالأسماء هنا غير مهمة، كما يقول سرماغو على لسان إحدى شخصياته، فلما انطفأت عيون المصابين في الرواية بالعمى انطفأت معها أسمائهم وغابت.
حتى في طريقة سرد سراماغو كان هناك نوع من العمى أو التشويش في السرد إن صح التعبير، في الحوارات، كانت تأتي متتابعة متصلة، دون علامات ترقيم، باستثناء الفاصلة. وأحيانا لا يسبق الحوارات، ولا يعقبها اسم قائلها، فيحتاج القارئ إلى معرفة قائلها من السياق أشبه بمن يصوت عليك ولا تستطيع رؤيته.
أجزاء الرواية
يمكن تقسيم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول منذ اللحظة الأولى لإصابة الرجل الأعمى عند تقاطع الإشارة إلى دخول المصابين في الحجر الصحي، وتحديدا عند اللحظة التي امتلئ فيها الحجر بالحد الأقصى لساعته .
الجزء الثاني بعد ما استقر الحجر بعدده الأقصى 300 مصاب تقريبا والذي شاهدنا في ما تطرقنا لهم من الغياب التام للسلطة إلى اللحظة التي خرجوا فيها من الحجر. أما كيف حدث هذا؟ ولماذا؟ فسأتركه لمن سيقرأ الرواية لجزء الثالث من هذه اللحظة إلى نهاية الرواية .
الفائدة
الجزء الثالث بالنسبة لي كان دون الأول والثاني فيه رتابة إلى أحداث تتكرر، والحوارات التي تحمل فكرة أو تعالج قضية قليلة، وكنت أتوقع أن يتطرق سراماغو لقضايا دينية في هذه الرواية، كما فعل في رواية انقطاعات الموت، خصوصا وفكرة المرض ترتبط في بعض المعتقدات بفكرة الخطيئة.
لكنه لم يشر لها إلا في نهاية الرواية، بمشهد مقتضب في الكنيسة. وبشكل عام لو قارنت بين رواية العمى، ورواية انقطاعات الموت للمؤلف، فشخصيا أفضل رواية انقطاعات الموت، على عكس ما يرى بعض القراء، لأن الأفكار والقضايا التي عالجتها رواية انقطاعات الموت بالنسبة لي أكثر وأعمق مع أن رواية العامة تقع في 400 صفحة، وهي تقريبا ضعف، عدد صفحات رواية انقطاعات الموت.