recent
أخبار ساخنة

مراجعة ونقد كتاب- الصفحة البيضاء - ستيفن بنكر

هل نولد متساويين؟

هل نحن نولد متساوين بصفحة بيضاء ثم تملأها التربية والتجربة والبيئة؟ أو أن جيناتنا الموروثة قد أثرت في تشكيلتنا؟ وما الإشكالات والقضايا الأخلاقية التي ستنشأ لو قلنا بأحد هذين الرأيين؟ كتاب هذا الأسبوع لأحد أساتذة قسم علم النفس في جامعة هارفارد سيعالج جميع الأسئلة السابقة فدعونا نستعرض كتاب الصفحة البيضاء - لستيفن بنكر.

مراجعة كتاب الصفحة البيضاء - ستيفن بنكر

لكل واحد منا شخصيته المختلفة لكن هل سألت نفسك مرة ما الذي شكل شخصيتي؟ ما الذي جعلني ما أنا عليه الآن؟ ما الذي دفعني لاختيار هذا المسار أو ذاك؟ ما الذي قادني إلى الاهتمام بقراءة ومشاهدة هذا المقال؟ هل الجزء المشترك من شخصيتي مع أحد أفراد عائلتي يعود إلى جيناتنا المشتركة أو بيئتنا المشتركة؟

بدأ المؤلف في الجزء الأول من الكتاب بعرض فلسفي لبعض النظريات والمعتقدات التي حاولت تفسير الطبيعة البشرية فعرّج على التصور الديني أولًا ثم ناقش ثلاث نظريات:

النظرية الأولى

 الصفحة البيضاء Blank Slate أو tabula rasa للفيلسوف التجريبي جون لوك في القرن السابع عشر الذي ينكر وجود أي طبيعة بشرية فطرية فالعقل بالنسبة له عند الولادة صفحة بيضاء بلا حروف أو أفكار فطرية أولية وكل ما يكتسبه الإنسان يأتي لاحقًا عن طريق الحواس والتجربة وهو المذهب التجريبي عند الفلاسفة.

  النظرية الثانية

 هي لجان جاك روسو في القرن الثامن عشر واستعمل المؤلف في عرض فكرته مصطلح "الهمجي النبيل" الهمجي هنا بمعنى غير المتمدّن فلم يكن روسو يعتقد بفكرة الصفحة البيضاء لكنه كان يرى أن البشر في حالتهم الطبيعية مسالمون لا يميلون للعنف والأنانية ولا يتصفون بالرذيلة ولا يعانون من أي اضطراب.

  وأن كل الآفات هي نتاج الحضارة التي أفسدت الإنسان  وإلا فالأصل في الإنسان الخير لو تُرك إلى الطبيعة وأي شر يلحق بالإنسان فهو من المجتمع وليس من طبيعته البشرية وسنجد أثر هذه الفكرة في بعض خطاباتنا اليومية كما أشار المؤلف فنحن نصف المتسم بالخير أو الفضيلة بأنه نظيف، نقي، قلبه أبيض.

  وكأننا نفترض أن الشر هو درن ووسخ عارض على طبيعتنا البشرية وليس كامنًا فيها وأننا إذا غسلناها عاد الإنسان لأصله الطيب وكذلك نجد أثر هذا الاعتقاد في نظرتنا وتفضيلنا أحيانًا لما هو طبيعي فنميل إلى الأطعمة الطبيعية والأدوية الطبيعية ونتوجّس من كل ما هو مصطنع أو تدخل فيه الإنسان.

  مع أن بعض الثمار في حالتها الطبيعية سميّة ومضرة وتحتاج إلى تدخل الإنسان لإزالة سمّيتها ولا أدري إن كان هذا يفسّر أيضًا توجّس بعض الناس اليوم من أخذ اللقاحات وتفضيلهم اكتساب المناعة بالإصابة بالمرض على اكتسابها عن طريق اللقاح تحت وهم المغالطة المنطقية التي تفترض أن كل ما هو موجود في الطبيعة أو يأتي منها فهو جيد وأفضل.

  النظرية الثالثة

 هي فكرة الشبح في الآلة أو الثنائية عند الفلاسفة وكما يقول بها رينيه ديكارت في القرن السابع عشر وهي أن الإنسان مكون من ثنائية الروح والجسد أو العقل والجسد وليس المقصود بالعقل هنا كتلة الدماغ داخل جمجمتك لا، بل هي القدرة على التفكير والحكم والإرادة والاختيار وشعورك بذاتك ككيان متفرد ومفكر وموجود وبإرادة حرة.

  وهي المتحكمة بالجزء المادي منك، بجسدك فهي ثنائية بطبيعتين مختلفة واحدة مادية فيزيائية متمثلة في جسدك البيولوجي الذي يعتريه ما يعتري المادة فيشيخ ويموت ويقبل التجزئة وجوهر غير مادي متمثل في روحك أو عقلك ما تنطبق عليه القوانين الفيزيائية وما يقبل التجزئة.

  لذلك قد يُبتر جزء من جسدك كرجلك لكن يظل عقلك وروحك وشعورك بنفسك كما كان لا تصبح بنصف عقل أو نصف ذات أو نصف روح فالجسد في هذه النظرية أشبه بآلة بيولوجية تتحكم بها الروح أو الذات أو العقل أو النفس أو الأنا أو أيًا ما كان اسم هذا الجوهر حسب تعبير الفلاسفة.

  وهو جسد بريء، صفحة بيضاء وكل سلوك يصدر منه أو خير أو شر يلحقه فسببه هذا الشبح في الآلة والملامة تقع عليه، أشبه بسيارة تقودها وأنت لا تتهم السيارة بأنها متهوّرة لكنك تحكم على السائق بالتهور وتنسب إليه أفعالها لأنه المتحكّم بها .

الكتاب يناقش هذه النظريات الثلاث ويسعى إلى تقويضها من خلال أربعة مجالات:

  المجال الأول

العلم المعرفي أو الإدراكي والذي يدرس وظائف العقل من خلال الفلسفة وعلم النفس والذكاء الاصطناعي واللغويات والأنثروبولوجيا وعلم الأعصاب وهذا المجال قادنا إلى عدد من الأفكار والاستنتاجات حول الطبيعة البشرية فالأنثروبولوجيون مثلًا وهم الذين يدرسون الإنسان بمختلف أزمنته وأماكنه ويصفون ويقارنون شكله وثقافته وطريقته في العيش .

حينما درسوا الشعوب المختلفة، سواء البدائية أو المتمدنة وجدوا بطبيعة الحال تباينًا في سلوكهم في تقاليد الزواج والطعام وشكل اللباس والمحرمات والمعتقدات الشعبية وكل ما يتعلمه الإنسان باعتباره جزءًا من المجتمع لكنهم في المقابل لاحظوا بعض الأنماط المشتركة بين كل هذه الشعوب.

  ولذلك كما أشرنا في مراجعة كتاب هل نولد عنصريين أن بعضهم قال: هذا هو الحد الفاصل بين ما ينتمي إلى طبيعتنا البشرية الفطرية وما ينتمي إلى التربية والثقافة المكتسبة أن الطبيعة البشرية الفطرية إذا وُجدت يجب أن تكون شاملة لكل أفراد النوع البشري بغض النظر عن الثقافة التي عاش فيها الإنسان فما هي هذه الأنماط المشتركة التي لاحظوها؟ 

 وجدوا مثلًا، وهذا أيضًا أشرنا إليه في كتاب هل نولد عنصريين أنهم يميلون لتقسيم العالم والناس إلى من ينتمون إلينا ومن ينتمون إليهم أو من هم منا ومن ليسوا منا وقد ينطوي على هذا التقسيم اختلاف احترامهم وتعاملهم لمن يقعون داخل دائرتهم أو خارجها بغض النظر عن قطر هذه الدائرة.

  ووجدوا أيضا أن عندهم نفس الانفعالات المألوفة لدينا من غضب وحزن وفرح وغيرها وإن كان بعضهم قال إنهم اكتشفوا ثقافات لا تملك بعض عواطفنا لكن رد عليهم آخرون بأنها مراوغة حول المعنى وإلا فهم يملكونها حتى لو اختلفت أسبابها واختلف شكل التعبير عنها أو أسمائها .

ومما وجدوه مشتركًا بين الثقافات المختلفة مبدأ السببية فهم يفسّرون الأحداث بمسبباتها بغض النظر عن صحة تفسيرهم فقد يعزون المرض لتعويذات سحرية ويفسرون الظواهر الطبيعية كالمطر والرياح لآلهه معيّنة وحتى على مستوى معاملاتهم اليومية يميلون إلى تفسير الأحداث بمسبباتها وإن لم يكتشفوا أسبابها اخترعوها.

  ومن هنا نشأت بعض الخرافات والأساطير وهكذا سنجد أن السلوك وإن تباين وتفاوت على مستوى السطح بحسب اختلاف الثقافة لكنها تشترك في الآليات العقلية العميقة التي أنتجتها وتفاعلت مع البيئة في إنتاجها بما فيها اللغة، بل اللغة هي أظهر تجلياتها فنحن نعرف أن اللغة مكتسبة من البيئة.

  لا أحد يقول أن الطفل يولد بجينات اللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية ولذلك يوجد في العالم أكثر من 6 آلاف لغة لتباين ثقافات الشعوب لكن ما المشترك بينها؟ قدرتهم على اكتساب اللغة ما الذي جعل الطفل في المقام الأول قادرًا على اكتساب اللغة؟

 فأنت لو جئت ببغاء وقرد وطفل وعاشوا في نفس البيئة وتحدثت معهم كل يوم فغاية ما يستطيع الحيوان الوصول إليه هو تقليد بعض الأصوات أو ربط أصوات محددة بردات فعل معينة لكن لا يمكن من خلال محادثاتك المحدودة أن يستنبط ويستخلص قواعد اللغة البشرية مثل الطفل وينطق بعبارات وجمل جديدة لا محدودة نظريًا.

  وهذا ما دفع بعالم اللسانيات تشومسكي إلى الاعتقاد بوجود لغة عالمية أو نحو مشترك في كل هذه اللغات وهي مبرمجة في عقل الطفل فطريًا ولذلك يرى تشومسكي أن التعبير الأدق هو أن الطفل ينمي اللغة ولا يتعلمها لأن أساساتها مبرمجة فطريًا في عقله ولذلك كان قادرًا على اكتساب أي لغة بشرية إذا نشأ في ثقافتها.

  وهو ما تدعمه ملاحظة الأنثروبولوجيين الذين درسوا ثقافات البشر ووجدوا أنها تملك جميعا لغة يتواصلون بها بغض النظرعن شكل هذه اللغة ودرجة تعقيدها وقريب من هذه الفكرة رأي بعض المفسرين في الآية الكريمة "وعلم آدم الأسماء كلها" قالوا: أي أقدره على تعلم اللغة.

  وليست هذه الآلية الفطرية لاكتساب اللغة هي الآلية العقلية الوحيدة الموروثة فقدرتنا على التفكير والتخطيط والتجريد والإحساس وكل ما نكتسب من ثقافتنا يتطلب وجود آليات فطرية مبرمجة قادرة ومستعدة على تعلمها والتفاعل معها ولو كان العقل مجرد صفحة بيضاء لما أمكنه فعل شيء.

  المجال الثاني

المجال الثاني الذي استند عليه المؤلف نظريته حول الطبيعة البشرية هو علم الأعصاب المعرفي وهو مجال أخص من الأول يدرس كيف تتشكل المعرفة والعواطف في أدمغتنا من جانب تشريحي ويحدد المناطق الدماغية والأعصاب المسؤولة عنها فكل أفكارنا وقدراتنا العقلية وآلامنا وأحلامنا حتى عواطفنا التي نضعها أحيانا في مقابل العقل.

  ونفترض ثنائية العقل والقلب هي تنشأ عن طريق أنشطة فيزيولوجية في الدماغ يمكن ملاحظة بعضها وقياسه أو حتى التحكم فيه فيرسل للجراح تيارات كهربائية في بعض مناطق الدماغ فيحس الإنسان بشعور معين أو تتسرب داخل دماغه مواد كيميائية كما تفعل بعض الأدوية وتغير من إدراك الإنسان ومزاجه.

  وقد تتضرر مناطق في دماغه ويتبعها تغير في سلوك الإنسان وشخصيته وبعض قدراته العقلية فثمة مناطق مسؤولة عن اللغة، ومناطق مسؤولة عن العنف أو الذكاء أو الجنس أو العواطف أو التعرف على الوجوه وهناك مناطق تقوم بوظائف إشرافيه ننسبها عادة إلى الذات مثل مراجعة الحقائق والتحكم في السلوك وغيرها في شبكة دماغية معقدة مكونة من بلايين العصبونات وتريليونات المشابك العصبية.

  وعرضت أمثلة على ما يمكن أن يختلف في سلوكنا لو تضررت بعض هذه المناطق في مراجعة كتاب الرجل الذي حسب زوجته قبعة لأوليفر ساكس  فهناك علاقة بين تركيبة أدمغتنا وحجم بعض المناطق فيه وبين إدراكاتنا وقدراتنا العقلية وسلوكنا وهو ما يؤكد أيضًا على أننا لا نولد صفحة بيضاء بل نولد بطبيعة بشرية متفاوتة.

المجال الثالث

 المجال الثالث الذي استند عليه المؤلف في نظريته حول الطبيعة البشرية وهو علم الوراثة السلوكي الذي يدرس مدى تأثير جيناتنا الموروثة على سلوكنا من خلال عدة اختبارات مثل تجارب التوائم،  تعرفون هناك نوعان من التوائم التوائم المتطابقة وهم الذين نشأوا من بويضة واحدة وحيوان منوي واحد لذلك يشتركون في كامل الجينات ولا يمكن أن يكونوا جنسين مختلفين.

  وهناك التوائم المختلفة الذين نشأوا من بويضتين مختلفتين مثل بقية الأشقاء، فهؤلاء يشتركون في نصف الجينات ويمكن أن يختلف جنسهم وحتى نكون دقيقين، نقصد بنصف الجينات هنا الجينات التي يختلف الناس فيها وإلا فالبشر جميعًا يشتركون في 99.9% من جيناتهم ،هذه نسبة التشابه بيني وبينك وبينك وبين أي أحد وكل إنسان في العالم والاختلاف يكمن في الـ0.1% وهي التي نعنيها حينما نقول أن التوائم المتطابقة يشتركون فيها. 

 بينما التوائم المختلفة والأشقاء يشتركون في نصفها فتجارب البالغين التي اختبرت سلوك التوائم المتطابقة الذين عاشوا معًا أي يشتركون في الجينات والبيئة كانوا أكثر تشابها في سلوكهم وخصائصهم الشخصية من التوائم المختلفة والأشقاء الذين عاشوا معًا ويشتركون في البيئة مثلهم ولكن في نصف جيناتهم فقط.

  صحيح هناك بعض السمات المكتسبة مثل اللغة التي نتكلم بها والدين الذي نتعبد به لكن الخصائص السلوكية متشابهة مثل درجة إتقانك اللغة التي تتكلم بها ودرجة تدينك بالدين الذي تتبعد به ومواقفك تجاه القضايا الأخلاقية بالإَضافة إلى العناصر الشخصية الخمسة كالانطوائية وغيرها الموجودة في كتب علم النفس.

 وهذه قد تكون نتيجة متوقعة لكن النتيجة الصادمة والتي ستغيّر كثيرًا من أفكارنا حول التربية أنهم لما قارنوا بين التوائم المتطابقة الذين عاشوا في نفس المنزل أي يشتركون في الجينات والبيئة مع التوائم المتطابقة الذين عاشوا منفصلين أي يشتركون في الجينات ويختلفون في البيئة.

  لم تختلف درجة تشابههم ونفس النتيجة كانت المقارنة بين الأشقاء الذين عاشوا معًا أو عاشوا منفصلين لم يؤثر عامل التربية المشتركة في درجة تشابههم بل التشابه بين الأشقاء المنفصلين أعلى من التشابه بين اثنين متبنّين أي لا يشتركون في جيناتهم حتى لو عاشوا معًا.

  وفي الواقع تشابه المتبنين ليس أعلى من تشابه أي اثنين عشوائيين تختبرهم وربما كان هذا المشهد الذي يحمل بعض المبالغة للتوأم ماليفرت يجسّد هذه الفكرة فالتوأم انفصلوا عند الولادة وعاشوا في بيئتين مختلفة ثم التقوا مصادفة في نفس الغرفة بنفس طريقتهم في اللباس وحلاقة الشعر وعدد الأقلام ونوع الطعام.

  فتطابق جيناتهم قادهم لسلوكيات متشابهة وهذا ربما يفسر ما ندعوه أحيانا التخاطر بين التوأم وطبعًا التجارب السابقة كانت لبيوت من الطبقة الوسطى واستُبعدت حالات الإهمال المتطرفة أو الفروقات بين الثقافات ،وأيضًا وهي نقطة مهمة جدًا علم الوراثة السلوكي لا يقول أن الجينات هي السبب المباشر لهذه السمات ولكن يبين لنا أنها ترتبط بها والترابط لا يقتضي السببية فبعض السمات تكون نتيجة لجينات مباشرة مسؤولة عنها لكن بعضها هي نتاج غير مباشر.

  على سبيل المثال بعض الدراسات تقول أن من يمتلكون المظهر الجسدي الحسن هم بمعدل متوسط أكثر ثقة وتأكيدًا لشخصيتهم من غيرهم وبالتالي فرص ترقيتهم في وظائفهم بسرعة أعلى من غيرهم هذا لا يعني أن الطموح والثقة جاء نتيجة لجينات مباشرة ولكنه قد يأتي نتيجة لتأثير نظرات الآخرين التي نعرفها.

  وقل مثل ذلك في الجينات الأخرى التي قد تؤثر في تفاوت الفرص الاقتصادية بين الناس كما قال أحدهم: افترض أن مليون شخص يرغب كل منهم بدفع عشرة دولارات لسماع بافاروتي من أشهر مغني الأوبرا فهذا يعني أنه سيكون أغنى مني بعشرة ملايين دولار بسبب فروقات وراثية بيننا منحته الصوت الحسن.

 أظن السؤال الذي يراودك الآن اين عامل البيئة المشتركة في الأسرة؟ حسب التجارب فإن تأثيرها قريب من الصفر أو 0-10% فقط والمؤلف يذكر أن كثيرًا من الدراسات السلوكية التي ربطت بين سلوك الآباء مع سلوك أبنائهم لم تأخذ في اعتبارها تأثير البيولوجيا الذي قد يكون هو المؤثر الأساسي .

لأنهم نقلوا جيناتهم إلى أطفالهم فصار الوالدين الذين يميلون للتحدث يمنحون هذه الجينات لأبنائهم فيميلون للتحدث وليس لأنهم اكتسبوها من تربيتهم أو لأن والديهم يتحدثون معهم لكن المسألة ليست حتمية بل هي تدل على احتمالية بنسبة 40-50% ،ويلخص المؤلف علم الوراثة السلوكي في ثلاثة قوانين.

  الأول جميع الخصائص السلوكية البشرية هي قابلة للتوريث بنسبة 40-50% تأثير التربية في العائلة هو أقل من تأثير الجينات فنسبة تأثير التربية 0-10% فقط طيب، بقيت 50% تقريبًا من المعادلة، أين ذهبت؟

 هذا هو القانون الثالث وهو أن جزءًا مهما من التباين في الخصائص السلوكية لا يُعزى إلى الجينات ولا الأسرة ولكن إلى التجربة الشخصية الفريدة والتي تتأثر بثقافة الأقران، ثقافة المكان الذي عاشوا فيه والزمان الذي عاشوا فيه أيضًا وهذا ما يفسر التباين بين سلوك الآباء والأبناء .

أحيانًا لأن الأبناء "مخلوقون لزمان غير زمانهم" كما يقول الأثر ولذلك لو ترعرعت في مكان مختلف عن المكان الذي نشأ فيه والداك فهل ستبدو مثلهم؟ أم مثل الناس الذين كبرت معهم؟ طريقة لبسك والموسيقى التي تستمع إليها وتمضية أوقات فراغك ،الناس يتأثرون بثقافة أقرانهم أكثر من ثقافة والديهم ويكتسبون اللغة من الأطفال الآخرين وتشبه لكنتهم لكنة أقرانهم أكثر مما تشبه لكنة والديهم.

  هذه التجربة الفريدة هي ما تشكل النسبة الأكبر من تكوين شخصيتنا بالإضافة لتفاصيل صغيرة تحدث في حياتنا مثل أن تمر في شارع وتجد "بروشور" على الأرض عن تخصص جامعي فتقتنع به وتختاره و يقودك إلى مسار مختلف في حياتك أو تصطدم بشخص ما وتتعرف عليه ويصبح صديقك ويؤثر في شخصيتك.

 هذه التفاصيل الفريدة التي تقع خارج المنزل هي ما يصنعنا ويكتب حكايتنا الخاصة وهذا يخفف العبء والضغط على الوالدين الذي تسببت به نظرية الصفحة البيضاء فحمّلتهم مسؤولية جنوح أولادهم وأنه نتيجة لفشل تربيتهم ولهذا يؤمن المؤلف بأن كثيرًا من نصائح التربية هي هراء.

  وتذكرت حكمة منتشرة تقول: قبل أن أتزوج كان لدي ست نظريات في تربية الأطفال أما الآن فعند ستة أطفال وليس عندي نظريات لهم هذا لا يعني أن لا نعتني بأطفالنا أو أن حسن تعاملنا معهم لا معنى له فعلاقتنا معهم هي علاقة إنسانية في المقام الأول وهذا معنى لطيف من أجمل ما أشار له المؤلف.

  وهو أن ننظر إلى أطفالنا كمجرد قوالب طينية نشكّلها وبالتالي إذا انتفى تأثيرنا تنتفي أهمية تعاملنا معهم فأنت حتى لو كنت تعلم أو لو كنت تعلمين أنه لا سبيل لتغيير شخصية زوجك أو زوجتك وهو غالبًا ما سيحدث فهذا لا يعني أنه لا معنى لحسن تعاملنا معهم والاعتناء بهم كشأن بقية علاقاتنا مع أصدقائنا وأزواجنا وأطفالنا ومن نحب.

  الفصل التاسع عشر الذي تحدث فيه عن الأطفال من أمتع فصول الكتاب بالإضافة للفصل الذي يسبقه، الفصل الثامن عشر الذي تحدث فيه عن الجندر والجنوسة وهل الاختلافات بين الجنسين هي اختلافات تشريحية في أعضائهم فقط؟ أو أن سماتهم السلوكية مختلفة أيضا تبعًا لاختلاف جيناتهم.

  واستعرض بعض الفروقات بين الجنسين على الأساس البيولوجي وناقش بعض الحركات النسوية التي تبنت نظرية الصفحة البيضاء اعتقادًا منها أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لمحاربة التمييز الجنسي فأكد المؤلف أولًا على أن الفروقات الجنسية التي أثبتها العلم لا تستدعي تقييم الأفراد ومعاملتهم وفق جنسهم.

  وهو يؤمن بوجود مظالم وتمييز يجب إلغاؤه لكن ذلك لا يكون بإلغاء حقيقة الاختلافات بين الجنسين وادعاء الصفحة البيضاء التي لا يثبتها العلم تجاهل الجنس لا يعني تجاهل جزء من الوجود الإنساني لا نحتاج إلى إقامة الحقوق على أعمدة هشة فذلك يضعف القضية أكثر مما يدعمها.

  نعم هناك فروقات لا علاقة لها بالتكوين البيولوجي ولكن ثمة فروقات أخرى أكثر من مجرد الأعضاء الجنسية يختلفون فيها وعدد المؤلف بعضها ولا يعني أي فارق جنسي يثبته العلم أنه ينطبق على كل رجل مقارنة مع كل امرأة أو العكس فهو معدل متوسط للجنسين وبالتالي فأي تعميم أو تقييم للأفراد بالخصائص المتوسطة للفئة  التي ينتمون لها هو ممارسة غير صحيحة ولا مبرر لها.

  والمؤلف كان حذرًا في هذا الفصل من ألا يُفهم منه أي تبرير لممارسات خاطئة وحرص على تفنيد المخاوف التي ساهمت في تبني بعض السياسات عمومًا لنظرية الصفحة البيضاء وخصص جزءًا من الكتاب لمناقشتها والتي يمكن تقسيمها إلى أربعة مخاوف: 

  •  الخوف من عدم المساواة وتبرير الاضطهاد والتمييز إذا كان الناس يولدون مختلفين.
  • الخوف من عدم الكمال ومن لا جدوى الإصلاح الاجتماعي إذا كانت الطبيعة البشرية نتيجة لجينات متجذرة في تكوينهم.
  • الخوف من فكرة الحتمية التي قد ترفع المسؤولية الشخصية عن مرتكبي الجريمة إذا كان السلوك نتيجة لمؤثرات جينية موروثة.
  • الخوف من العدمية ولا معنى الحياة إذا كنا مجرد آلات بيولوجية.

  خصّص المؤلف فصلًا لكل واحد من هذه المخاوف الأربع فذكر أن المساواة والعدالة مفهومين مختلفين ونفي المساواة في الطبيعة البشرية ولا ينفي المساواة في الحقوق وبيّن أن الدماغ كما يملك بعض الجينات التي قد تعزز سلوكيات خاطئة فإن الدماغ يملك أيضًا بعض المناطق الإشرافية التي تساعدنا على المحاكمة العقلية والاستفادة من الماضي والخوف من العقوبة.

  وبيّن من خلال المجال الرابع الذي استند عليه في نظريته حول الطبيعة البشرية وهو علم نفس النشوء أو التطور كيف تطور في أدمغتهم الحس الأخلاقي الذي يساعدنا على الإحساس بالآخرين أو على الأقل بمن ينتمون لدائرتنا وناقش المغالطة الطبيعية التي تفترض أن كل ما يوجد في الطبيعة فهو خير.

  لذلك قلنا في المراجعة السابقة أن البحث العلمي يجب أن يكون موضوعيًا حتى لو خالف أفكارنا الأخلاقية هذه ليست وظيفة العلم أن يبرر قناعاتنا الأخلاقية لكنه قد يساعدنا في فهمها والتعامل معها،  فالحقائق البيولوجية شيء والرأي الأخلاقي شيء آخر ونحن نحتاج إلى معرفة طبيعتنا البشرية كما هي بميزاتها وعيوبها بعيدًا عن النظرة المثالية.

 والمؤلف اعتمد على طريقتين في مناقشة هذه القضايا: الأولى الدفاع عنها بتفسيرات التي ذكرنا بعضها والثانية بتوضيح أن فكرة الصفحة البيضاء ليست بريئة من هذه المخاوف التي يربط بعض الناس بينها وبين الطبيعة البشرية فكما أن هناك حركات استغلت حقيقة الطبيعة البشرية في ممارسات عنصرية واستبدادية كما فعلت الحركة النازية.

  فهناك أيضًا من استغل الصفحة البيضاء مثل الأنظمة الشمولية التي سلبت من الناس حريتهم وتدخلت في كل شؤونهم لتشكيل الناس وفق أهدافهم باعتبار الناس عجائن يمكن تغيير سلوكهم دون اعتبار لاختلافات الطبيعية وحتى فيما يتعلق بالمسؤولية الشخصية واستحقاق اللوم تجاه مرتكبي الجريمة.

نقد الكتاب

 وستيفن بنكر رجل موسوعي فإلى جانب اختصاصه في علم النفس المعرفي واللغويات فهو مطلع على الفلسفة والفن وقارئ للروايات ولذلك تجده في كتابه يستشهد بكل هذه المعارف في مناقشة أفكاره وهو عادة ما يطرح نظرية أو فكرة لعالم ما ثم يحامي عنها أو يناقشها أو يفنّدها أو يقارنها مع آراء آخرين.

  فهو لا يعرض أفكاره باعتبارها أفكارًا أصيلة ولكنه يحشد ما يعرفه في الموضوع ولا أتفق بطبيعة الحال مع كل ما طرح في الكتاب وتمنيت لو يسعفني الوقت لمناقشة بعضها فالنظريات الثلاث التي قدمها المؤلف حول الطبيعة البشرية هي ليست كل النظريات المطروحة حولها.

  وبعض الجوانب التي تطرق لها المؤلف هي في اعتقادي تخرج عن قدرة العلم التجريبي على معالجتها وتدخل في مساحة الفلسفة والمؤلف اقترب منها قليلًا حينما قدّم نظرية ديكارت مثلًا وربما أوهمك ذلك أنه قدم رأي الفلسفة في الموضوع لكنه لم يطرح كل الآراء الفلسفية التي جاءت بعد ديكارت كسبينوزا وهيوم وكانت وغيرهم.

  بالإضافة إلى أنه لم يشر إلى قصور تقنيات تصوير الدماغ المستعملة اليوم وكما بيّناه في المراجعة السابقة فما نفعله حتى الآن هو مراقبة خارجية لنشاط الدماغ فنراقب زيادة نشاطه في بعض المناطق نتيجة لزيادة تدفق الدم فيها فهو أشبه بمن يريد معرفة طريقة عمل مؤسسة ما لكنه لم يتمكن من دخولها ولا مقابلة الموظفين فيها بل اكتفى بمراقبة المبنى من الخارج.

  ولذلك تظل بعض الأسئلة المتعلقة بالإرادة الحرة والاختيار العشوائي دون إجابة واضحة لكن الكتاب يستحق القراءة للأمانة وهو أوسع بكثير مما عرضت ولذلك من يستكثر صفحات الكتاب التي تصل إلى 550 صفحة تقريبًا أنصحه على الأقل بقراءة الفصل الثامن عشر والتاسع عشر المتعلق بالجندر والأطفال فهي من أمتع وأوضح فصول الكتاب .

الترجمة السيئة

 أسلوب بنكر يتميز بالوضوح لولا  لولا المترجم الذي قتل الكتاب فالترجمة السيئة تقتل الكتاب حرفيًا لأن الدار تحتكر حقوق الكتاب فغالبا لا يُترجم الكتاب مرة أخرى إذا كان قد تُرجم مما يجعل النافذة الوحيدة للقارئ العربي للوصول إلى هذا الكتاب هي من خلال ترجمته السيئة.

  وسوف أعطيكم نماذج بسيطة جدًا مما قارنته بين الترجمة وبين النسخة الإنجليزية الأصلية ففي أحد المواضع، استعمل المؤلف عبارة ‏"explosive" book ليعني حجم انتشار الكتاب وسرعته ووضع المؤلف علامتي تنصيص بين كلمة ‏"explosive" ليشير إلى هذا المعنى المجازي.

  فنقلها المترجم إلى الكتاب التفجيري وليته على الأقل وضعها بين علامتي تنصيص كما فعل المؤلف ،  ولم تقف الترجمة الحرفية عند هذا الحد بل تجاوزتها إلى الـ idioms أو الأمثلة والتعابير الاصطلاحية ففي أحد المواضع قرأت عبارة بدت لي نشازًا في سياق الجملة يقول: في تجربة يخضع أناس لمقابلة زائفة كان عليهم أن يهدئوا كعوبهم عندما استدعي من يجري المقابلة .

فاستغربت، ماذا يعني "أن يهدئوا كعبوهم"؟ ولما عدت للنسخة الأصلية وجدتها cool their heels وهو مثل في اللغة الإنجليزية يعني أن يضطرك أحد للانتظار،  لكن المترجم لا يعنيه أن يبحث عنها فترجمها حرفيًا، حتى على مستوى نقل المعلومة لا تستطيع أن تأمن الترجمة عليها.

  ففي موضع قرأت الدماغ منظم بثلاثة ملايين قاعدة في السلسلة الوراثية فاستغربت لأن الذي أعرفه أن في الدماغ ثلاثة بلايين وليس ملايين كما في الترجمة فعدت للنسخة الأصلية فوجدتها بالفعل بلايين أي مليارات وليست ملايين كما نقلها المترجم ، وخطأ آخر وجدت حينما وضع المترجم حرف نفي غير المعلومة إلى النقيض في حين النسخة الأصلية تثبتها.

  وفي موضع وضح المؤلف عبارة بين قوسين تجاهلها المؤلف ولم يترجمها هذا ما استدركته لأني أعرف المعلومة الصحيحة من قبل فماذا عن المعلومات التي قد نجهلها وتمررها لنا الترجمة الخاطئة؟ وأما مصيبة المصائب والخطأ الذي دفعني للضحك "ولكنه ضحك كالبكاء" كما يقول المتنبي.

   أن المترجم في أحد مواضع الكتاب حوّل المواطن إلى همبرغر! ما أمزح! اقرؤوا معي هذه العبارة المسرحية الكوميدية الرجل الذي أتى إلى العشاء تدور حول ناقد أدبي نال شهرة كبيرة لدرجة أننا نصدق أن الهمبرغر في بلدة صغيرة من ولاية أوهايو سوف تفور وتنزلق عليه فاستغربت ما دخّل الهمبرغر هنا؟

 فعدت للنسخة الأصلية فوجدت الكلمة burgher بالـh والتي تعني المواطن الذي يعيش في بلدة معيّنة وليست burger بدون الـh التي توهمها المترجم وليته على الأقل كتبها على صوتها برجر لكنه كتبها همبرغر التي لا تترك مساحة للتبرير إلا جوع المترجم😊  ناهيك عن التراكيب الركيكة التي تغمِض المعنى وهذه جريمة في حق الكتاب.

  ولا بد لاتحاد الناشرين وحقوق الملكية الفكرية أن يكون لهم موقف من هذه الترجمات السيئة على الأقل في رفع حقوق الكتاب ليتسنّى لمترجمين آخرين إعادة ترجمته فمن مساوئ هذه الترجمات السيئة أنها تأخذ من وقت المراجعة كما حصل الآن والتي كان في الإمكان أن نستغلها في مناقشة جوانب أخرى من الكتاب.  

google-playkhamsatmostaqltradent